تنفّس البلد رئاسياً وانطلق عهد جديد بخريطة طريق رسمها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بخطاب قَسَم واعد. وإذا كان لبنان قد ربح التحدّي بكسر فراغ استحكم بالموقع الرئاسي الأول لأكثر من سنتين، واغرق البلد في توترات وتشنجات سياسية هدّدت كيانه، فإنّ التحدّي الأكبر كامن في رحلة الألف ميل التي تنتظر العهد، لعبور البحر اللبناني الطافح بالملفات المعقّدة بسلام وأمان، وتتطلّب جهداً جباراً وورشة عمل حثيث ودؤوب رئاسياً وحكومياً وسياسياً واقتصادياً لاستعادة الدولة وإعادة الانتظام إلى مؤسّساتها ومعالجة الاهتراء الضارب في كلّ مفاصلها.
المهمّة الملقاة على العهد الرئاسي الجديد شاقة بلا أدنى شكّ، بالنظر إلى الكمّ الهائل من التراكمات والتعقيدات. ومسؤولية إنجاح هذه المهمّة، على ما يقول مرجع سياسي كبير لـ«الجمهورية» لا تقع على العهد وحده بل على كلّ المكونات السياسية من دون استثناء، لتترجم شبه الإجماع على انتخاب الرئيس جوزاف عون، بتسهيل مهمّة العهد، وتكون رافدة له، مستفيدة من تجارب الماضي التي دفّعت لبنان واللبنانيين، باصطفافاتها وتناقضاتها السياسية وتغليب مصالحها، ومبارزاتها في زرغ الألغام في طريق إنهاض الدولة، الثمن الغالي على كل المستويات».
التكليف الاثنين
وإذا كانت المكونات السياسية على اختلافها قد تقاطعت في مواقفها الداعمة للعهد، فإنّ الإختبار الأول لصدقيتها وإقران القول بالفعل، يتجلّى في الاستحقاق الحكومي، الذي أطلق رئيس الجمهورية المسار القانوني لاتمامه بتحديده رسمياً لموعد إجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية تشكيل حكومة العهد الأولى، بعد غد الاثنين. ما يعني انّ تكليف رئيس الحكومة سيكون بعد انتهاء الاستشارات في اليوم نفسه.
ووفق معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ التوجّه الرئاسي صارم لجهة أن يلي تكليف رئيس الحكومة بعد الاستشارات الملزمة، تشكيل الحكومة بوتيرة سريعة خلافاً للحالات المشابهة في السابق التي كان يغرق فيها التأليف في حقل واسع من التناقضات والاشتراطات، حيث أنّ الوضع الداخلي ضاغط على كلّ المستويات، ولا يوجد أي مبرّر لتضييع الوقت، حيث لا يجب ان يستلزم تشكيل الحكومة اكثر من 10 ايام أو اسبوعين على ابعد تقدير.
شكل الحكومة
وإذا كانت النقاشات قد انطلقت سريعاً في اوساط سياسية مختلفة، حول شكل الحكومة وحجمها، وما اذا كانت سياسية او حكومة وحدة وطنية او حكومة مطعّمة بين سياسيين وتكنوقراط، فإنّ مصادر رفيعة تؤكّد لـ«الجمهورية» انّ التوجّه الغالب هو نحو تشكيل حكومة فعل وعمل، موسّعة من 24 وزيراً، وأمّا شكلها، فسواء أكانت سياسية مطعّمة بتكنوقراط، أو من لون معيّن، فسيعبّر عن شراكة مختلف المكونات فيها.
ورداً على سؤال حول البيان الوزاري للحكومة، قالت المصادر: «انّ مقاربة هذا الأمر سابقة لأوانها، ولا نعتقد انّ البيان الوزاري سيشكّل مشكلة. ولكن ما نستطيع ان نرجّحه في هذا السياق، هو أنّ البيان سيحاكي الوضع الداخلي ربطاً بتطوراته في شتى المجالات، والمستجدات الاقليمية والتحدّيات على لبنان، وسيلاقي في جزء كبير من مضمونه ما اعلنه رئيس الجمهورية وتعهّد به، ويكمّله في تحديد المسار والآليات التنفيذية لمندرجات خطاب القسم».
الأولويات
ضمن هذا السياق، يؤكّد مرجع سياسي لـ«الجمهورية»، انّ ما يوجب التعجيل في تشكيل الحكومة، سلسلة الأولويات التي تنتظر الحسم منذ سنوات، وتتصدّرها التعيينات لبعض المراكز الامنية والإدارية والقضائية، بدءاً بتعيين قائد جديد للجيش. وتتصدّرها ايضاً الخطة الإنقاذية والاصلاحية لمعالجة الازمة الإقتصادية والمالية، وايضاً إصدار المراسيم التنفيذية لمجموعة كبيرة من القوانين المجمّدة من دون تنفيذ خلال العهد السابق وتزيد عن الخمسين قانوناً، ومعظمها مرتبط بحلول للأزمة الاقتصادية والمالية، وتُضاف إلى ذلك اولوية إعادة الإعمار في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية».
ولفت المرجع عينه إلى انّ مقاربة هذه الاولويات مهمّة مشتركة تتشارك فيها رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب. والملح حكومياً، إجراء تعيينات نوعيّة على قاعدة الكفاءة والنزاهة، وتنفيذ القوانين وتعيين الهيئات الناظمة للقطاعات المهمّة، وأيضاً لناحية اغتنام الفرصة المتاحة لاستثمار الدعم الخارجي العربي والدولي الذي عبّر عن نفسه بصورة غير مسبوقة مع انتخاب الرئيس عون، وهذا يستوجب على مستوى رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة جولات خارجية عربيّة ودوليّة وطرق ابواب الاصدقاء والاشقاء لمساعدة لبنان في تخطّي ازمته، وإزالة آثار العدوان الإسرائيلي.
حيوية في القصر
وفيما استعاد القصر الجمهوري في بعبدا حيويته بوجود رئيس الجمهورية، رجحت مصادر مطلعة أن تُستأنف من جديد اللقاءات الدورية بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب. فيما شكّلت زيارة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي إلى القصر، النشاط الرسمي الأول لرئيس الجمهورية.
واشار ميقاتي إلى انّ «الرئيس جوزاف عون طلب خلال اللقاء استمرار الحكومة في عملية تصريف الاعمال إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة وأن يكون تشكيلها بإذن الله في اسرع وقت».
من جهة ثانية، افادت معلومات امس، عن زيارة سيقوم بها ميقاتي إلى سوريا اليوم للقاء مدير الادارة المركزية احمد الشرع، يرافقه وزير الخارجية في حكومة تصريف الاعمال عبدالله بو حبيب.
عون يستقبل عون
وفي خطوة لافتة، زار الرئيس السابق ميشال عون رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري، واعلن بعد اللقاء: «انّه من الواجب أن يزور الرئيس السابق الرئيس الجديد ويهنئه ويتمنى له التوفيق والنجاح في مهماته».
إلى بكركي
زار الرئيس عون، مساء امس، الصرح البطريركي في بكركي، حيث استقبله البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وهنأه بانتخابه رئيسا للجمهورية، متمنيا له التوفيق في تحقيق ما التزم به في خطاب القسم.
حضور قبرصي وإيطالي
وكانت لافتة في سياق الدعم الخارجي للعهد الرئاسي الجديد زيارتان للرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ووزير الخارجية الإيطالية انطونيو تاجاني.
وقال الرئيس القبرصي: «أردت ان اكون الرئيس الاول الذي يتقدّم بالتهنئة للرئيس جوزاف عون. وجئت اليوم لأقف الى جانب الدولة اللبنانية لأنّ قبرص تقف الى جانب لبنان وشعبه. وقدّمت للرئيس عون دعوة لزيارة بروكسل، وذلك بعد لقائي بالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون».
اما الوزير الايطالي فاعتبر انّ انتخاب الرئيس ضمانة لاستقرار لبنان وسيسمح بتعزيز العلاقات الثنائية وايضاً على الصعيد الاقتصادي والتجاري. وقال: «انّ لبنان مهمّ جداً بالنسبة إلى ايطاليا، وسيكون قادراً على تأدية الدور الذي يستحق».
واضاف: «ان يكون هناك رئيس للبنان يتمتع بحكمة ومصداقية كبيرة، فهذا مهمّ جداً للسلام وليس فقط في لبنان بل في الشرق الاوسط ايضاً، وانّ الرئيس جوزاف عون صديق لايطاليا، والايطاليون مسرورون جداً لانتخابه، وسنعمل معاً في الاشهر والسنوات المقبلة».
واكّد في الوقت نفسه وجوب تعزيز وقف اطلاق النار الذي حصل بعد الحرب، وسيكون لإيطاليا دور في هذا الشأن، ولاسيما من خلال جنودها في «اليونيفيل».
عون يشكر
شكر الرئيس عون ايطاليا على «دعمها المستمر لمساعدة لبنان، ولا سيما من خلال المشاركة في عداد القوات الدولية العاملة في لبنان اليونيفيل». وشدد على ان «لبنان ماضٍ في خطوات ثابتة لتحقيق الامن والاستقرار في الجنوب، وانه مع عودة الحياة الى المؤسسات الدستورية بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة، سيتم العمل على إعادة النهوض بلبنان والسير به نحو مستتقبل افضل، وان يعود الى لعب الدور الريادي الذي اضطلع به في المنطقة، وان يعزز الشراكة مع أوروبا ودول البحر المتوسط.
تهنئة إيرانية وأممية
وفي السياق نفسه، وجّه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان رسالة تهنئة الى الرئيس جوزاف عون، معبراً عن «استعداد الحكومة الإيرانية لمواصلة تعزيز التعاون الثنائي في كافة المجالات المختلفة خلال فترة رئاسة الرئيس اللبناني الجديد». كما عبّر عن «أمله في أن تؤدي هذه الانتخابات، الى الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والسلام والامن لشعب لبنان العزيز»، مؤكّداً أنّ «تعزيز الاستقرار والوحدة سيهزم أطماع اسرائيل على أرض لبنان».
وهنأ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، العماد جوزاف عون على انتخابه رئيساً للبنان، مشيراً الى أنّ «هذا الانتخاب يُعدّ تطوراً مهماً بعد فراغ دام عامين». واكّد انّه يشجع على سرعة تشكيل الحكومة.
ارتياح سعودي
في سياق متصل، برزت أمس جولة قام بها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري على المرجعيات الروحية، حيث زار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي، ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، ونائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الشيخ علي الخطيب، وشيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ سامي ابي المنى.
وفي بكركي تمنّى السفير السعودي «أن يكون عهد الرئيس جوزاف عون عهد وفاق وطني جامع، وان تكون هذه المرحلة مرحلة نمو وازدهار وتطور واستقرار»، وقال: «المملكة العربية السعودية ستكون الى جانب لبنان وشعبه ورئيسه، لا سيما اننا لمسنا الارتياح والفرح الذي ظهر على وجه الشعب اللبناني بوضوح بعد انتخابه رئيساً».
ومن دار الفتوى، اعرب البخاري عن ارتياح السعودية بإنجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان، الذي تحقق بوحدة اللبنانيين، التي تبعث الامل في نفوسهم، واعتبره خطوة مهمة نحو الأمام لتعزيز نهضة لبنان وإعماره واستتباب الامن والاستقرار والبدء بورشة الاصلاح واستعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي. وذكر بيان لدار الفتوى انّ «السفير البخاري أبدى تقديره واعجابه بخطاب قسم رئيس الجمهورية الذي كان على قدر المسؤولية الوطنية».
خروقات وشهداء
ميدانياً، واصل الجيش الاسرائيلي اعتداءاته على المناطق الجنوبية، عبر سلسلة تجريفات ونسف للمنازل في بعض القرى واستهدافها بالقصف، واطلاق تحذيرات للاهالي بعدم العودة الى قراهم، في ظل تحليق متواصل للطيران المعادي الحربي والمسيّر في الاجواء الجنوبية. وكان البارز أمس، استهداف سيارة «فان» بغارة مسيّرة في بلدة طيردبا ما ادّى إلى سقوط شهداء وجرحى.
وأوعزت وزارة الخارجية إلى بعثة لبنان الدائمة لدى الامم المتحدة تقديم شكوى ضدّ اسرائيل على اعتداءاتها المتكرّرة، رغم اعلان وقف الاعمال العدائية.
وأعلنت قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) في بيان «دعمها لإعادة انتشار الجيش اللبناني في جنوب غرب لبنان بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، بما في ذلك إزالة الذخائر غير المنفجرة والركام. وأكّد البيان التزام «اليونيفيل» بدعم وقف الأعمال العدائية والقرار 1701 بهدف استعادة الاستقرار في المنطقة.
ويُذكر أنّ الجيش اللبناني بدأ الانتشار في 5 بلدات في قضاءي صور وبنت جبيل جنوب لبنان، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منها.
الى ذلك، ذكر موقع «واللا» العبري نقلاً عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين انّه «من المتوقع أن يزيد انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية في لبنان الضغط على إسرائيل لاستكمال انسحاب قواتها من جنوب لبنان بحلول نهاية كانون الثاني الحالي».