ميركل والهجرة.. مذكرات تكشف عن معضلة المبادئ والمخاطر
المصدر: DW
كشفت الصفحات الخاصة بسياسة اللجوء والهجرة في مذكرات أنغيلا ميركل خبايا فترة دقيقة من تاريخ ألمانيا وأوروبا، اتخذت فيها المستشارة قرارات مثيرة تأثرت بتغيرات المجتمع والتاريخ تجاوزت تداعيتها ألمانيا لتشمل أوروبا بكاملها.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أصدرت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل مذكراتها تحت عنوان "الحرية ـ ذكريات 1954 ـ 2021". مذكرات توثق التجربة الشخصية لميركل في الحكم ودورها في صنع القرار السياسي خلال فترة متقلبة مليئة بالتحديات. وتقدم المذكرات رؤية المستشارة للتحولات الكبرى التي مرت بها ألمانيا وأوروبا والعالم خلال فترة قيادتها.
سياسة الهجرة واللجوء كانت واحدة من أبرز القضايا التي تناولتها المذكرات، خاصة في ظل موجة اللجوء الكبيرة التي خيمت على أوروبا عام 2015. وفي هذه المذكرات اعترفت ميركل بأن قرارها آنذاك بقبول اللاجئين العالقين في هنغاريا للدخول إلى ألمانيا قد ساهم في تقوية حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي. لكنها أوضحت في الوقت ذاته أنها لم ترَ بديلاً عن قرارها في ذلك الوقت، لأن رفض اللاجئين عند الحدود الألمانية كان سيكون "أكثر دراماتيكية". وأوضحت: "لم اختر أن يأتي اللاجئون، بل جاءوا بسبب ظروف حدثت خارج أوروبا".
كما تناولت ميركل جملتها الشهيرة "سنتمكن من ذلك" واعترفت أنها قللت تأثيرها آنذاك "هذه الكلمات الثلاث البسيطة" حسب وصفها، قالتها للتعبير عن قدرة الألمان على استيعاب موجة اللاجئين وإدماجهم. وبهذا الصدد كتب موقع "شبيغل أونلاين" الألماني (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024) أن الفصل الخاص باللاجئين (في المذكرات) كشف عن مدى ضعف حساسية ميركل "تجاه المزاج العام في بعض شرائح المجتمع. فربما كانت ردود الفعل على صورة سيلفي التقطها لاجئ سوري معها، بمثابة مفاجأة لها. كان أحد المصورين الصحفيين قد التقط تلك الصورة، وانتشرت في جميع أنحاء العالم". وبشأن ذلك قالت ميركل: "في تلك اللحظة لم تكن لدي أدنى فكرة عن الأثر الذي ستحدثه تلك الصورة وغيرها من صور السيلفي"، كما كتبت "ولم أتمكن حتى الآن من فهم كيف يمكن للمرء أن يعتقد أن صورة لوجه مبتسم يمكن أن تحفز حشوداً من الناس على الهروب من وطنهم".
فتح أبواب ألمانيا ـ ميركل وأزمة اللاجئين
لا توجد، على الأرجح، لحظة قد أثرت على فترة حكم ميركل أكثر من ليلة الرابع على الخامس من سبتمبر/ أيلول 2015. في ذلك الوقت، كان الآلاف من اللاجئين من سوريا وأفغانستان والعراق عالقين في محطة قطار كيليتي في بودابست بالمجر، وبعد تفكير عميق قررت المستشارة فتح حدود ألمانيا أمامهم. لحظة كان لها "ما قبل وما بعد"، كما كتبت أنغيلا ميركل. لحظة من المحتمل أن العديد من الناس في ألمانيا شعروا- وما زالوا يشعرون بها حتى اليوم. قرار أدى في حينه إلى استقطاب سياسي ومجتمعي حاد في البلاد، فبينما أشاد حزب الخضر وجزء من الاشتراكيين الديمقراطيين بموقف المستشارة الإنساني، عارضه بشكل حاد بعض أطياف الاتحاد المسيحي واليمين المتشدد الذي اتهم ميركل بتعريض هوية وأمن ألمانيا للخطر.
من جهته، قال هورست زيهوفر، زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي (البافاري) السابق ووزير الداخلية في عهد ميركل في مقابلة مع صحيفة "ميركور ميونيخ" (27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، أنه لم يقرأ أي شيء مفاجئ في مذكرات المستشارة السابقة، خاصة فيما يتعلق بقضية الهجرة: "لا يوجد بالفعل شيء جديد هناك. أنا أرى ذلك بهدوء لأن لا أحد يمكنه جدياً أن ينكر أن تطور الوضع منذ ذلك الحين، قد أكد صحّة موقفي".
وكان هورست زيهوفر دخل في خلاف حاد مع ميركل في خريف 2015 بشأن سياسة اللجوء وطالب بسياسة أكثر تقييداً بهذا الخصوص.
أزمة اللجوء ـ نقطة تحول فاصلة في مسيرة المستشارة
تصف ميركل التوترات الاجتماعية والسياسية التي رافقة أزمة اللاجئين بمفترق طرق في منتصف فترة ولايتها كمستشارة. وتشرح ميركل في مذكرتها الأسباب التي دفعتها للاستعداد لفتح حدود البلاد أمام اللاجئين، ولكن في النهاية يمكن اختصار موقفها في نقطتين: الأولى كان دافعها الإنساني، وواجبها الأخلاقي؛ والثاني هو الإحساس بعدم إمكانية الهروب من الوضع. تقول ميركل إنه لا يجب على ألمانيا وأوروبا الاعتقاد بأن يصبحا غير جذابين (لطالبي اللجوء) بتبني تدابير قاسية. ميركل سردت أيضاً عدداً من الحجج المرتبطة بحق اللجوء، والاتفاقيات الدولية، وازدياد أسباب اللجوء.
ولا تزال ميركل متشبثة بالكثير من مبادئها حتى بعد مغادرتها السلطة، فقد اتخدت مؤخراً على سبيل المثال لا الحصر، موقفًا ضد مطالب التكتل المسيحي المحافظ الذي تنتمي إليه، بشأن مشاريع رفض المهاجرين على الحدود الألمانية. وقالت ميركل مقابلة مع "شبيغل أونلاين": "ما زلت أعتقد أن هذا غير صحيح (..) من الوهم الاعتقاد بأن كل شيء سيكون على ما يرام إذا رفضنا اللاجئين على الحدود الألمانية". إذا فشل الاتحاد الأوروبي في حل مشكلة الهجرة غير القانونية، فإنها تخشى "تراجعاً جزئياً للاندماج الأوروبي، مع عواقب قد لا يمكن التنبؤ بها" . غير أن صحيفة "زودويتشه تسايتوغ" (22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024) نقلت عنها مطالبة المستشارة السابقة بالانفتاح والاستعداد للتغيير من المجتمع المضيف الذي يصل إليه اللاجؤون، دون ذلك لا يمكن أن يكون هناك اندماج "الشرط الأساسي هو الحد الأدنى من المعرفة عن الثقافات الأخرى، يجب أن أكون مهتماً بذلك بالفعل" تقول ميركل.
"سنتمكن من ذلك" ـ شعار مهد لاكتساح اليمين الشعبوي؟
أصبحت جملة "سنتمكن من ذلك" واحدة من أشهر الشعارات السياسية في تاريخ ألمانيا الحديثة. ففيما فُهمت من قبل الكثيرين كتعبير عن التفاؤل والتضامن مع اللاجئين، قوبلت أيضاً بانتقادات شديدة. خاصة في السنوات التالية، عندما أصبح موضوع اندماج المهاجرين والتوترات الاجتماعية المتزايدة محط جدل سياسي ومجتمعي واسع، فهناك من رأى في هذا الشعار تعبير عن تفاؤل مفرط يقلل من التحديات الحقيقية. في مذكراتها، توضح ميركل أنها اختارت هذه الجملة كتعبير عن العزم بهدف تشجيع الناس في ألمانيا وأوروبا على التكاتف لمواجهة وضع غير مريح. كانت تدرك صعوبة الوضع، لكنها أكدت أنه من الضروري أن يبقى الناس متفائلين ويتحملوا المسؤولية.
هناك من وصف في حينه قرار ميركل بشأن اللاجئين بـ"أم جميع الأخطاء". وتنبأ باكتساح حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي، للمشهد السياسي في ألمانيا. وبعد ست سنوات، وتحت حكم المستشار الاشتراكي الديمقراطي أولاف شولتس، تؤكد استطلاعات الرأي الحالية صدق هذا التنبؤ الذي قد يتحقق في الانتخابات البرلمانية القادمة، خصوصاً بعدما حقق الحزب في الانتخابات المحلية في ولايات تورينغن وساكسونيا وبراندنبورغ نتائج تاريخية. وحتى على المستوى الدولي، كانت ردود الفعل على سياسة ميركل تجاه اللاجئين وجملتها الشهيرة متباينة. ففي معظم الدول الأوروبية التي شهدت توترات بسبب قضية الهجرة، كانت سياسة ميركل محل انتقاد. وفي دول الاتحاد الأوروبي الشرقية مثل المجر وبولندا، التي كانت ترفض استضافة اللاجئين، تم انتقاد سياسة ميركل باعتبارها ساذجة ومغرورة.
التأثيرات بعيدة المدى ـ تعثر سياسة الاندماج؟
في مذكراتها، تتأمل ميركل أيضاً في التأثيرات طويلة المدى لأزمة اللاجئين على المجتمع الألماني. فقد بدأت ثقافة الترحيب التي دعمتها غالبية الألمان في البداية بالتغير مع مرور الوقت، حيث أصبحت تحديات الاندماج أكثر وضوحاً. وأصبحت قضايا مثل توفير السكن، والتعليم، والاندماج في سوق العمل، بالإضافة إلى التوترات الاجتماعية المتزايدة، تزداد إلحاحاً. وبقيت مسألة ما إذا كانت ألمانيا قادرة فعلاً على دمج العدد الكبير من المهاجرين على المدى الطويل محل أخذ ورد.
ميركل انتهجت سياسة مبنية على قيم التسامح والمساعدة الإنسانية، لكنها كانت تدرك في الوقت نفسه التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تطرأ بسبب قراراتها. وحسب ميركل، كان الهدف من سياسة الهجرة التي انتهجتها ليس فقط تقديم الدعم للاجئين، بل أيضاً العمل على دمجهم في المجتمع الألماني، وهي عملية طويلة ومعقدة. ورغم أن هذه السياسة أثارت نقاشات حادة داخل ألمانيا، خاصة من قبل الأحزاب اليمينية المتطرفة التي اتهمتها بأنها "تفتح الأبواب أمام المهاجمين" (إشارة إلى تهديدات الإرهابيين المحتملين)، إلا أن ميركل تمسكت بموقفها.
ميركلا ـ تداعيات سياسة "الترحيب" ألمانيا وأوروبيا
على المستوى الألماني، ساهمت سياسة ميركل في تعزيز التنوع الثقافي في البلاد وزيادة العمالة في بعض القطاعات، لكنها في الوقت ذاته أثارت ضغوطًا على الخدمات الاجتماعية، وأسفرت عن زيادة المخاوف الأمنية في بعض المناطق، إضافة إلى إعطاء الوقود لليمين الشعبوي المتشدد. على المستوى الأوروبي، أدت سياسة ميركل إلى خلافات حادة بين الدول الأعضاء حول توزيع اللاجئين، مما ساهم في تصاعد المشاعر المناهضة للهجرة في بعض الدول. في النهاية، كانت سياسة ميركل محورية في إعادة تشكيل النقاشات السياسية بشأن الهجرة في ألمانيا وأوروبا، ورغم التحديات، فإنها أظهرت التزاماً بقيم حقوق الإنسان والتضامن الأوروبي.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "يولاندس-بوستن" الدنماركية اليمينية (26 نوفمبر) معلقة على مذكرات المستشارة السابقة: "كانت أنغيلا ميركل، على الرغم من طبعها المتحفظ، شخصية مركزية في أوروبا في العقدين الأولين من هذا القرن. كانت تحظى بشعبية، واللقب "موتي" ومعناه (الأم) لا يكذب - وفي الوقت نفسه جسرًا نحو الشرق. كانت سمعة ميركل عند وداعها في عام 2021 ربما الأكبر في السياسة الأوروبية الحديثة (...) من الناحية الداخلية والاقتصادية، انزلقت ألمانيا في السنوات الأخيرة من أزمة إلى أزمة، وقد نشأت بعض هذه الأزمات بلا شك في غياب الإصلاحات خلال فترة ميركل، حيث كان التركيز على الاستقرار بدلاً من التغيير".